كانت مصر تتبع الدولة العباسية تبعية أسمية حيث بلغت الخلافة العباسية في بغداد درجة كبيرة من الضعف بحيث لم يعد للخليفة أية سلطة عليها بعد أن أستقل حكام الولايات بولاياتهم مع بقاء اعترافهم بالسيادة الدينية للخلفاء العباسيين ممثلة في ذكر اسم الخليفة العباسي في خطبة الجمعة و نقش اسمه علي السكة ( العملة).
فاستقلت مصر أيام الدولة الطولونية ثم الإخشيدية ، كما استقل السامانيين بخراسان و بلاد ما وراء النهر، و أنشأ عبد الرحمن الثالث الخلافة الأموية في الأندلس.
و بلغت الخلافة العباسية ضعفاً كبيراً حتي في عقر دارها فأصبح الخليفة العباسي تحت سيطرة قواده من الفرس و الأتراك الذين جاء بهم ليكونوا جنوداً له بدلاً من العرب، فتحول الأمر أن أصبحوا هم القوة الحقيقية المسيطرة، فقامت الدولة البوبهية في العراق و بعض مدن فارس، و الدولة الحمدانية في الموصل و ديار بكر، و الدولة الغزنوية في أفغانستان أولاً ثم ما لبثت أن استولت علي بعض أملاك الدولة السامانية و الدولة البويهية.
علي الرغم أن هذه الدويلات المستقلة كانت تمثل تفتيتاً للخلافة العباسية الجامعة و أدت إلي نزاعات كثيرة فيما بينها، إلا أنها في الوقت نفسه أفرزت قادة أقوياء استطاعوا أن يصدوا هجمات البيزنطينيين و أن يوسعوا حدود الأمة الإسلامية بفتح دولاً جديداً ما كانت الخلافة العباسية تستطيع أن تصلها بعد ما حل بها من ضعف و ميل إلي الترف و البذخ ، منها علي سبيل المثال بلاد الهند التي فتحتها الدولة الغزنوية و كانت سبباً في دخول الإسلام لشبه القارة الهندية ( الهند و باكستان و بنجلادش الآن).
و كثرة الدويلات الإسلامية المنفصلة عن الخلافة العباسية قد أدي أيضاً إلي ظهور مراكز حضارية بجانب بغداد هي عواصم تلك الدويلات مثل القاهرة و قرطبة و طشقند و غيرها مما وسع الزخم الحضاري للحضارة الإسلامية.
الفتح الفاطمي لمصر
حاول الفاطميون فتح مصر ثلاث مرات سابقة حتي تولي الخلافة الفاطمية في بلاد المغرب الخليفة المعز لدين الله الفاطمي سنة 341 هج ، و بدأ في تجهيز جيش ضخم ليفتح به مصر وصل عدده إلي 100 ألف جندي ، وولي علي قيادته جوهر الصقلي .
خرجت الحملة في 14 ربيع ثاني سنة 358 هج / فبراير 969 م من مدينة القيروان بقيادة جوهر الصقلي و دخل الاسكندرية فسلمها أهلها بدون قتال. و أدرك أهل الفسطاط أنه لا قبل لهم بصد جيوش الفاطميين فأرسل الوزير جعفر بن الفرات رسولاً من العلويين إلي جوهر الصقلي يطلب منه الأمان ، ووافق جوهر وكتب عهداً بنشر العدل و بث الطمأنينة و ترك الحرية للمصريين في إقامة شعائرهم الدينية.
و في 17 شعبان دخل جوهر مصر ( الفسطاط ) وخرج الوزير جعفر بن الفرات و سائر الأشراف و العلماء في استقباله و رحبوا به ، و عسكر جوهر في الموضع الذي بنا فيه مدينة القاهرة.
و هكذا زال سلطان الخلافة العباسية و الحكم الإخشيدي في مصر بدون قتال ولا ضربة سيف واحدة و أصبحت مصر ولاية فاطمية في دولة تمتد من المحيط الأطلنطي غرباً إلي البحر الأحمر شرقاً و استمرت كذلك لمدة 200 عام.
أعمال جوهرالصقلي في مصر
حكم جوهر الصقلي مصر حوالي ثلاث سنوات من 969 م / 358 هج إلي 972 م / 362 هج كإحدي الولايات الفاطمية نائباً عن الخليفة الفاطمي المعز الله الفاطمي .
كان جوهر الصقلي حاكماً عادلاً يجلس للمظالم بنفسه و يرد الحقوق لأصحابها و يضرب علي أيدي المفسدين و مثيري الإضطرابات. ، كما كان يمنع الجند المغاربة من الإعتداء علي الأهالي.
أسس جوهر الصقلي القاهرة ، رابع عواصم مصر الإسلامية ، لتكون مقراً لحكم الخليفة الفاطمي في مصر. و كان مساحتها الأولية 340 فداناً علي شكل مربع طول ضلعه 1200 متر تقريباً ، و كانت تمتد من منارة جامع الحاكم شمالاً إلي باب زويلة جنوباً و يحد من المدينة شرقاً تلال المقطم و من الغرب الخليج الكبير و من الجنوب مدينة القطائع ، كما قام ببناء سور يحيط بمدينة الجديدة من الطوب اللبن له ثمانية أبواب هي : باب زويلة و باب الفرج من الجنوب و باب الفتوح و باب النصر من الشمال و باب القراطين ( باب المحروق) و باب البرقية من الشرق و باب القنطرة في الغرب.
اختط جوهر الصقلي قصراً كبيراً لإقامة الخليفة الفاطمي و كان يقع بالقرب من السور الشرقي لذلك سمي بالقصر الشرقي. و كان يمتد من الموضع الذي يوجد به المشهد الحسيني الآن إلي الجامع الأقمر تقريباً و كانت له تسعة أبواب: ففي الناحية الشرقية كانت توجد أبواب العيد و الزمرد و قصر الشوك و الناحية الغربية كانت توجد أبواب البحر و الذهب و الزهومة ، و الناحية الجنوبية كانت توجد أبواب تربة الزعفران و الديلم و في الناحية الشمالية باب واحد هو باب الريح.
نشر المذهب الشيعي
عمل الفاطميون منذ أول يوم لهم علي تحويل أهل مصر إلي المذهب الشيعي، و لكن بدون إجبار. فأمر جوهر الصقلي المؤذنين في المساجد بأن يؤذنوا بحي علي خير العمل بدلاً من حي علي الفلاح – و هو مذهب الشيعة في الآذان.
كما أنشأ الجامع الأزهر ليكون مركزاً يتلقي الناس فيه عقائد المذهب الشيعي، و الذي سعي إلي نشره بالطرق السلمية و الترغيب. فكان يقوم بتعيين معتنقي المذهب الشيعي من المصريين في مناصب الدولة المهمة.
بدأ جوهر بناءه للمسجد الجامع ، الذي سمي بعد ذلك جامع الأزهر ، في أبريل سنة 970 م / جمادي الآخر 359 هج، و اتمه في يونية سنة 972 م / 361 هج. و كانت مساحة الأزهر عند بنائه نصف مساحته الحالية التي تبلغ الآن 12000 متراً مربعاً.
أقيمت في الجامع الأزهر أول صلاة جمعة يوم 6 رمضان سنة 361 هج، و لاحظ الناس أن الخطيب لم يدع للخليفة العباسي كما كان من قبل، و إنما دعي للخليفة الفاطمي المعز لدين الله.
كما أمر جوهر بأن يقال في الخطبة :” اللهم صل علي محمد المصطفي، و علي عليٌ المرتضي، و علي فاطمة البتول، و علي الحسن و الحسين سبطي الرسول، الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً، و صل علي الأئمة الطاهرين آباء أمير المؤمنين المعز لدين الله “.
أتبع الفاطميون وسائل مبتكرة في الترويج لمذهبهم الشيعي، فإلي جانب تعيين معتنقي المذهب في مناصب الدولة، لجأ الفاطميون إلي استحداث احتفالات دينية لم تكن موجودة من قبل، و ربطها بمظاهر فرح و طقوس يغلب عليها البهجة و الاستمتاع، و ذلك لتحبيب الناس في المذهب الجديد. من تلك الاحتفالات الاحتفال بالمولد النبوي الشريف و ليلة النصف من شعبان و عاشوراء و احتفالات شهر رمضان، و ابتداع أكلات و أغاني مخصوصة لهذه الأعياد منها أكلات الكنافة و القطائف في شهر رمضان، و طبق العاشوراء في مولد عاشوراء، و أغنية وحوي يا وحوي التي يغنيها الأطفال و هم يخرجون بالفوانيس في ليالي رمضان.
ضم الشام و فلسطين لسلطان الفاطميين
كان طموح الفاطميين هو التوسع شرقاً علي حساب الخلافة العباسية ،فكلف جوهر الصقلي لذلك جعفر بن فلاح و هو قائد مغربي من قبيلة كتامة بضم فلسطين و الشام لسلطان الفاطميين ، و كانت فلسطين و الشام في ذلك الوقت تحت حكم بقايا الإخشيديين. و دارت معركة فاصلة بين الجيش الفاطمي و جيش الإخشيد بقيادة الحسن بن عبد الله بن طغج، و انتصر فيها الفاطميون و تمكنوا من بسط نفوذهم علي دمشق و فلسطين سنة 969 م / 359 هج و أصبحت الخطبة في بلاد الشام للخليفة الفاطمي.
و لكن الفاطميون لم يهنأوا طويلاً ، فقد انقلب عليهم القرامطة في الجزيرة ، علي الرغم أنهم شيعيون أيضاً ، و زحفوا علي دمشق و استولوا عليها و هزموا الفاطميين الذين ارتدوا إلي مصر فتبعهم القرامطة داخل مصر و تقابل الجيشان شرق القاهرة ، و دارت معركة قاسية استطاع فيها الفاطميون صد القرامطة و ردهم إلي الشام.
و بعد سنتين حاول القرامطة غزو مصر مرة أخري و لكن الفاطميون هزموهم شرق القاهرة ثم تبعوهم إلي الشام و شتتوا شملهم و دخل الفطميون دمشق مرة أخري سنة 974 م / 363 هج و اعادوا الشام إلي سلطة الفاطميين.
قدوم المعز إلي مصر و تحولها إلي مركز الخلافة
لما رأي جوهر أن دعائم الحكم الفاطمي قد توطدت في مصر أرسل إلي الخليفة المعز يدعوه للحضور إلي القاهرة ليستقر بها و تكون عاصمة الخلافة الفاطمية.
ترك المعز لدين الله الفاطمي مدينة المنصورية ( بتونس الآن) و سار إلي مصر و دخل القاهرة في 7 رمضان 362 هج / 972 م ، و أصبحت مصر منذ دخوله عاصمة الخلافة الفاطمية و مقر الخليفة.
حمل المعز معه إلي مصر ألف و خمسمائة جمل محملة بالذهب ، و حمل معه رفات أجداده ليعاد دفنها في القاهرة. و سكن القصرين الذان شيدهما له جوهر الصقلي في مدينة القاهرة.
أعفي الخليفة المعز جوهر الصقلي من الوزارة خوفاً منه علي سلطته و ولي يعقوب بن كلس ، و هو يهودي عراقي حضر إلي مصر و أقام فيها، و اشتهر بدهائه و تدبيره أيام كافور الإخشيدي حتي قال عنه ” لو كان هذا الرجل مسلماً لجعلته وزيراً”.
تحول يعقوب بن كلس إلي الإسلام عام 967 م قبل دخول الفاطميين مصر، و رحل إلي شمال إفريقيا حيث ألتحق بخدمة الخليفة الفاطمي المعز ، حتي جاء المعز إلي مصر و ولاه وزارة مصر بدلاً من جوهر الصقلي. و كان من أول أعمال يعقوب هو الإفراج عن جميع من سبق اعتقالهم من الأخشيديين و الكافوريين.
و في سبيل نشر المذهب الشيعي أصدر يعقوب أوامره بأن ينقش علي الجدران عبارة ( خير الناس بعد رسول الله صلي الله عليه وسلم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ) و استعان بالشعراء و أغدق عليهم للدعوة إلي المذهب الشيعي.
كما استن الخليفة المعز سنة إقامة الولائم في قصر الخليفة و تبعه الخلفاء من بعده في هذه العادة. و بلغ عرشه الذي يجلس عليه من الفخامة حداً يفوق الوصف. كما أمر الخليفة المعز بعمل خريطة للعالم من الحرير الأزرق توضح كل أقطار العالم.